المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الــحــكــمــة وحــرارا تــها فـي شـعـــر حـمـيـدان الـشّـويـعــر


عبدالرزاق الحمياني
26-02-2007, 12:58 AM
الحكمة في الشّعر قسمان:الأوّل: حكمة حارّة لانّها تخرج من نار التّجربة
وفرن المعاناة، وخير مثل لها في الشّعر الفصيح حكمة المتنبّي، وفي
الشّعر الشّعبي حكمة حميدان الشّويعر، وليس الأمر قصراً عليهما ولكنّهما
- فيما أعرف - خير مثال على ذلك.
فالمتنبّي يخوض غمار الحياة ويتصارع مع الطّموحات والتّحديات ويبلو
كثيراً من النّاس وينكوي بنار التّجربة فتخرج الحكمة من فمه ومن قلبه
حارّةً تنبض مكويّة بنار المعاناة ولهيب التّجربة.
وحميدان الشّويعر كذلك، تخرج معظم حكمه الشّعريّة خلاصةً لتجارب
واقعيّة مريرة صهرته بنارها وقذفت براكينها بالحمم من فمه وقلبه.
حين يقول المتنبّي:

ودهر ناسه ناس صغار =وان كانت لهم جثث ضخام
وما أنا منهم بالعيش فيهم =ولكن معدن الذّهب الرّغام (1)
وشبه الشّيء منجذب اليه =واشبهنا بدنيانا الطّغام (2)
ولو لم يعل الا ذو محل =تعالى الجيش وانحطّ القتام (3)
فإنه لا يريد ان يُنظِّر لنا بأن الذّهب يستخرج من التراب، ولكنه يشكو
مرّ الشكوى، وتخرج الحكمة من قلبه الرّاجف خروج النّار من فوهة
بركان.. كذلك ابو تمّام حين قال:

شكوت وما الشّكوى لمثلي عادة =ولكن تفيض النّفس عند إمتلائها
فإنّه لا يريد ان يثبت لنا أنّ الإناء يفيض حين يزيد إمتلاؤه - ما أسهل
هذا وما أبرده.. إنّه يخرج لنا بحكمة حارّة من داخل نفسه المتّقدة..
كذلك حميدان الشّويعر حين يقول:

نخيت قرم من عيالي مجّرب =إلى نزر ماذاق الطّعام إسبوع
فترى ياولدي من ثمن الخوف ماسطا =والانجاس ماخلّوا سبيلك طوع!
فالحكمة هنا تأتي من لهيب التّجربة ونار الشّعور والمعاناة.. لا من
برج عاجي.. وهي تعبير عن شعور صارخ وليست تنظيراً لعقل بارد.
والثّاني: حكمة باردة تصدر من برج عاجي صاحبه يفكّر بعقل بارد
وينظّم ما فكّر فيه على شكل سبحة من الحكم والنّصائح الصّادقة ولكنّها
باردة لم تمّر على نار التّجربة ولم تصدر من حرارة المعاناة وإنّما صدرت
من تفكير هادئ بارد يزن الأمور بموضوعيّة، وخير مثال لهذا النوع شعر
صالح بن عبدالقدّوس في الأدب الفصيح، فجلّه من نوع الحكم الباردة،
ومثل عبدالصّمد بن المعذل في قوله:

أرى الناس إحدوثة =فكونوا حديثاً حسن
كأن لم يكن ما أتى =وما قد مضى لم يكن
إذا عزّ يوماً أخوك =في بعض أمر فهُن
ونحو هذا من الحكم الّتي قصدت قصداً فهي الهدف وليست الوسيلة لتحرير
المشاعر، هي حكم نافعة ولكنّها غير صادرة من حرارة التّجربة، كمقصورة
ابن دريد المشهورة والمليئة حكماً متتابعة ولكنّها نتيجة تنظير لا معاناة
حارّة مباشرة ..من المقصورة مثلاً:

من لم تفده عبر أيّامه =كان العمى أولى به من الهدى
ومن لم يقف عند انتهاء قدره =تقاصرت عنه فسيحات الخطى
وآفة العقل الهوى فمن علا =على هواه عقله فقد نجا
فإن أمت فقد تناهت لذتّي =وكلّ شيء بلغ الحدّ انتهى
إلى آخر المقصورة المليئة بالحكم الصّادقة الّتي من الممكن
قياسها باستقامة المسطرة لا بحرارة التّجربة، والحكمة دائماً
نافعة، الفرق أنّ الحكمة الحارّة نابعة من مياه الفنّ الدّفاقة
فهي باقية على مرّ العصور، لا بما انطوت عليه من حكمة ولكن
بما حوت من فنّ جميل ومشاعر إنسانّية نابضةكالقلب الحيّ.
ولأخي القارئ الكريم أقول إنّ تقسيم الحكمة في الشعر الى
(حارّة وباردة) لا يعني وجود خرسانة مسلّحة تفصل بين القسمين،
وبين النّوعين من الشّعراء، وإنّما المسألة على الغالب، فقد تصدر
حكمة حارّة من شاعر عاش في برج عاجي واشتهر بالتنظّير،
وقد تصدر حكمة باردة من شاعر خاض غمار الحياة واكتوى
بالمواقف وبالنّاس، وإنّما المدار على الغالب العام هنا وهناك،
ولهواة الحكمة الحارّة يحسن قراءة شعر طرفة بن العبد وبشار
بن برد والإمام الشّافعي أيضاً وغيرهم وحميدان الشّويعر والشّريف
بركات في موروثنا الشّعري الشّعبي..
وممّا يعطي الموضوع أبعاداً متوهّجة، ان الشّعر هو ديوان العرب،وفنّهم
الأوّل، وعشقهم الأصيل، وهو مرآة لنفوسهم وحياتهم الشّخصية والاجتماعيّة
والسّياسية، يسمعنا خفقات قلوبهم ويطلعنا على أسرارهم، ويجسّد أمامنا
آمالهم وآلامهم،ويدون مكارم الأخلاق، وإذا كان الإغريق في فلسفتهم قد
تحدّثوا عن الأخلاق كثيراً، وناقشوها بالمنطق، وقعَّدوا لها القواعد، فإن
الشّعراء العرب - الفصحاء والشعبيّين، قد تركوا لنا ملاحم فريدة في تمجيد
مكارم الأخلاق، وتقريبها إلى القلوب، وتحبيبها إلى النّفوس، وكان الشاعر
منهم حين يتكلّم عن مكارم الأخلاق يصف معشوقة له بارعة الجمال، تمتّع
العيون وتأخذ بالألباب، وتأثير الشّعر أقوى من النّثر بما لا يقاس، لانّه فنّ
جميل يعشقه النّاس، ويعشقون ماينطوي عليه.. وقديماً قال أبو تمّام:

ولولا خصال سّنها الشّعر مادرى =بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
ولد حميدان الشّويعر في بلدة (القصب) المشهورة بالملح، والّتي تبعد عن الرّياض
مائة وخمسين كيلومتراً شمالاً في منطقة الوشم.. وهي بلدة أعرفها جيّداً، ولم
يعرف تاريخ ميلاد الشّاعر بالتّحديد، ولكنّه توفّي سنة 1180ه أو قبلها بقليل،
وقد بلغ مرحلة الشّيخوخة، فيبدو أنّ ميلاده في أول القرن الحادي عشر، وهو
من (السّيايرة) من قبيلة بني خالد المعروفة، وأوصافه - كما تواترت على أفواه
الرّواة - أنّه كان قصيراً ذكّياً وحادّاً، وفقيراً أيضاً كما يتّضح في شعره، ومن
شعره أيضاً يتضح أنه قرأ في أشعار العرب وأخبارهم، وكان له رحلة مشهورة
إلى العراق، وبالإجمال فإن حميدان الشّويعر كان طموحه يفوق قدراته بكثير،
وهذا أقصر طريق للشّقاء والمعاناة والغضب على النّاس، بسبب وبدون، لهذا كان
هجّاءً مرّ الهجاء، وكان ساخطاً في أغلب الأحوال، كما كان شجاعاً بلا حول يذكر
وهذه أيضاً مصيبته، فإذا جمعنا هذه الصّفات فلعلّ مفتاح شخصيّة حميدان
(عقدة الاضطهاد) وهي عقدة كريهة تجعل صاحبها يطفح بالمرارة.
لهذا فإنّ الكثير من شعر الحكمة عند حميدان يخرج حارّاً من نار معاناته، قليل
التفاؤل بالنّاس، معتزّاً بنفسه، وحقّ له. كقوله:

أنا ياولدي جرّبت الأمور كلّها =ماكبرمن عظم المصيبة وهان
حبال الرّخا تورد مياه كثيرة =وبالضّيق ما ترد الخدود قران
انا أختار نومي فوق صوّانة الصّفا =ولا جودري في بلاد هوان
ولو صار شربي ماً هماج مخالطه =حنظل وانا لي بالمعزّة شان
أحبّ عليّ من ملك بغداد وارضه =إلى البصرة الفيحا ودار عمان
وقوله أيضا:

النّعمة خمر جيّاشه =ما يملكها كود وثقه
والجوع خديد يمّ أجواد =ودّك ياطا كلّ زنقه
ليت إنّ الفقر يشاورني =كان أدهك به كلّ فسقه
كان أدهك به عير فسقان =عقب الصّمعا صلف نهقه!
ويروى (حمرا) بدل (خمر) و(أدمك) بمعنى (أطحن) وفي البيت الأخير
يشبّه المترف الفاسق بالحمار، فالحمار ألذّ طعام عنده نبات (الصّمعا)
فإذا أكله بنهم وشبع رفع صوته بالنّهيق، وإنّ أنكر الأصوات لصوت
الحمير، ولا أدري أي ترف يتحدّث عنه حميدان في ذلك العصر البائس؟!
ولكنّ الامور نسبيّة. والشّاعر الموهوب حين يطلق حكمته تنطبق على كل
زمان ومكان، كقول حميدان:

الفتنة نايمة دايم =مار الأنجاس توعيها
يشبّ الفتنة مقرود =يعلّقها من لا يطفيها
وليا علقت ثم إشتبّت =بالحرب إنحاش مشاريها
لحقت برجالٍ أجواد =دايم تنصا قهاويها
إدفع الشّر دامك تقدر =حتّى تصير بتاليها
قوله (تنصا قهاويها) أي أنّهم رجال كرماء تدار في مجالسهم القهوة وتقام
الولائم، وليست (القهاوي) بمعناها اليوم فلم تكن موجودة وقتها.
ولحميدان مفردات من الحكمة إمّا لاذعة أو ساخرة كقوله:

لقيت دوا الظّما القربه =ودوا الحمار القيد!
وقوله أيضا:

تموت الأفاعي وسمّها في نحورها =وكم من قريس مات ماشاف قارسه
وقوله أيضا:

المال لوهو عند عنز شيورت =وقيل: يا أمّ قرين وين المنزل؟!
وقوله كذلك:

ومن لا يصير بقدر نفسه عارف =هذاك ثور ما عليه قلاده!
وقوله كذلك:

والّذي يرتجي الفضل عند اللّئام =مثل مستفزع صاح في مقبره
وقوله:

لو يجي عابدٍ لابدٍ له بغار =ما يحبّ القشر جاه من تحشره
(تحشره) آذاه..
وقد تأتي الحكمة في شعر حميدان زفرة حرّى او آهة حسرى بعد غناء حزين
يرثى فيه الشّاعر لنفسه ويصف حالته ويتأمّل في الدنيا.. كأنّماالحكمة الّتي
تأتي خاتمة الشّكوى بمثابة التسرية عن النّفس والبحث عن السّلوى كقوله هنا:

بالعون منيف قاله لي =يقول غلاك يوم أنت صبيّ
وكذّبت منيف في قوله =وتبيّن لي ماكان غبيّ
ترى الشايب عند عياله =وامّ عياله مثل العزبيّ
قلوا فيده وعافوه =عقب التّمسك بسببي
إحفظ مالك تجي غالي =حتّى يلاقونك يالعتبي
حتّى إمّ عيالي زهدت بي =نسيت جميلي وطربي
منّول تقول لّي لبّيه =وهالحين تقولّي وش تبي؟!!
ورأسي وعظامي توجعني =وظهيري من حدّ حقبي
وهجوسي تسري باللّيل =خوفٍ من موتي بطلبي
صدّرت وطويت العدّة =ويعقّبني من كان يبي
الدّنيا عامرها دامر =مافيها خير ياعربي!
للمزيد عن الشّاعر حميدان الشّويعر إنظر:
1- ديوان النّبط للأستاذ خالد الفرج.
2- صحافة نجد المثيرة في القرن الحادي عشر: رئيس التّحرير حميدان الشّويعر
للدّكتور عبداللّه ناصر الفوزان.
3- ديوان حميدان الشّويعر - إعداد الأستاذ محمد بن عبدالله الحمدان.
1- الرّغام: التّراب.
2- الطّغام: أراذل النّاس وغوغاؤهم.
3- ذومحلّ: ذو منزلة كبيرة. والقتام الغبار، يقول: لو أن الّذي يرتفع هو الأفضل
ما ارتفع الغبار فوق الجيش.
بعد هذا كلّه أرجو للجميع الفائده والمتعه والتّمعن بشعر الحكمه لفارسنا هذه المرّه
.

عــ الهوى ــز
26-02-2007, 02:09 AM
يعطيك العافية اخوي عبدالرزاق على الموضوع الرائع


تحياتي لك

لايحوشك
26-02-2007, 11:26 PM
ياسلام ياسلام



كفيت ووفيت وبيض الله وجهك



تسلم ياأستاذ عبدالرزاق تفنيد رائع طال عمرك



تحياتي ،،،،،،،،،،،،،،