صاحبة القلب المعذب
08-03-2008, 04:56 PM
الإخوة الأحباب بالمنتدى
أقدم لكم ديوان محمود درويش الأخير
"كزهر اللوز أو أبعد"
********
أتمنى أن تستمتعوا بصحبة هذا الديوان الرائع
كما استمتعت
(1)
فكر بغيرك
وأنت تعد فطورك فكر بغيرك
[لا تنس قوت الحمام]
وأنت تخوض حروبك فكر بغيرك
[لا تنس من يطلبون السلام]
وأنت تسدد فاتورة الماء فكر بغيرك
[لا تنس من يرضعون الغمام]
وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكر بغيرك
[لا تنس شعب الخيام]
وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكر بغيرك
[ثمة من لم يجد حيزاً للمنام]
وأنت تحرر نفسك بالاستعارات، فكر بغيرك
[من فقدوا حقهم في الكلام]
وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكر بنفسك
[قل: ليتني شمعة في الظلام]
(2)
الآن ... في المنفى
الآن، في المنفي ... نعم في البيت،
في الستين من عمر سريع
يوقدون الشمع لك
فافرح بأقصي ما استطعت من الهدوء،
لأن موتاً طائشاً ضل الطريق إليك
من فرط الزحام ... وأجَّلك
قمرٌ فضوليٌّ على الأطلال،
يضحك كالغبيّ
فلا تصدق أنه يدنو لكي يستقبلك
هو في وظيفته القديمة، مثل آذارَ
الجديد ... أعاد للأشجار أسماء الحنين
وأهملك
فلتحتفل مع أصدقائك بانكسار الكأس.
في الستين لن تجد الغد الباقي
لتحمله علي كتف النشيد... ويحملك
قل للحياة، كما يليق بشاعر متمرس:
سيري ببطء كالإناث الواثقات بسحرهن
وكيدهن. لكل واحدة نداءٌ ما خفيٌ :
هَيتَ لك / ما أجملك!
سيري ببطء، يا حياة، لكي أراك
بكامل النقصان حولي كم نسيتك في
خضمِّك باحثاً عني وعنك. وكلما أدركت
سراً منك قلت بقسوة: ما أجهلَك!
قل للغياب: نقصتني
وأنا حضرتَ ... لأكملَك!
..
...
(3)
حين تطيل التأمل
حين تطيل التأمل في وردةٍ
جرَحَت حائطاً، وتقول لنفسكَ:
لي أملٌ في الشفاء من الرمل /
يخضر قلبُكَ...
حين ترافق أنثى إلى السيرك
ذات نهار جميل كأيقونة ...
وتحلًّ كضيف على رقصة الخيل /
يحمر قلبُكَ...
حين تعُدُّ النجوم وتخطئ بعد
الثلاثة عشر، وتنعس كالطفل
في زرقة الليل /
يبيض قلبُكَ...
حين تسير ولا تجد الحلم
يمشي أمامك كالظل /
يصفر قلبُكَ...
(4)
إن مشيت على شارع
إن مشيت علي شارع لا يؤدي إلي هاوية
قل لمن يجمعون القمامة: شكراً!
إن رجعت إلي البيت، حياً، كما ترجع القافية
بلا خللٍ، قل لنفسك: شكراً!
إن توقعت شيئاً وخانك حدسك، فاذهب غداً
لتري أين كنت وقل للفراشة: شكراً!
إن صرخت بكل قواك، ورد عليك الصدى
(من هناك؟) فقل للهوية: شكراً!
إن نظرت إلي وردة دون أن توجعك
وفرحت بها، قل لقلبك: شكراً!
إن نهضت صباحاً، ولم تجد الآخرين معك
يفركون جفونك، قل للبصيرة: شكراً!
إن تذكرت حرفاً من اسمك واسم بلادك
كن ولداً طيباً!
ليقول لك الربُّ: شكراً!
..
(5)
مقهى، وأنت مع الجريدة
مقهى، وأنت مع الجريدة جالس
لا، لست وحدك. نصف كأسك فارغ
والشمس تملأ نصفها الثاني ...
ومن خلف الزجاج تري المشاة المسرعين
ولا تُرى
[إحدي صفات الغيب تلك:
ترى ولكن لا تُرى]
كم أنت حر أيها المنسي في المقهى!
فلا أحدٌ يرى أثر الكمنجة فيك،
لا أحدٌ يحملقُ في حضورك أو غيابك،
أو يدقق في ضبابك إن نظرت
إلى فتاة وانكسرت أمامها..
كم أنت حر في إدارة شأنك الشخصي
في هذا الزحام بلا رقيب منك أو
من قارئ!
فاصنع بنفسك ما تشاء، اخلع
قميصك أو حذاءك إن أردت، فأنت
منسي وحر في خيالك، ليس لاسمك
أو لوجهك هاهنا عمل ضروريٌ. تكون
كما تكون ... فلا صديق ولا عدو
هنا يراقب ذكرياتك /
فالتمس عذرا لمن تركتك في المقهى
لأنك لم تلاحظ قَصَّة الشَّعر الجديدة
والفراشات التي رقصت علي غمازتيها /
والتمس عذراً لمن طلب اغتيالك،
ذات يوم، لا لشيء... بل لأنك لم
تمت يوم ارتطمت بنجمة.. وكتبت
أولى الأغنيات بحبرها...
مقهى، وأنت مع الجريدة جالسٌ
في الركن منسيّا، فلا أحد يهين
مزاجك الصافي،
ولا أحدٌ يفكر باغتيالك
كم أنت منسيٌّ وحُرٌّ في خيالك!
..
..
(6)
هو لا غيره
هو، لا غيره، من ترجل عن نجمة
لم تصبه بأيّ أذى.
قال: أسطورتي لن تعيش طويلاً
ولا صورتي في مخيلة الناس /
فلتمتحني الحقيقة
قلت له: إن ظهرت انكسرت، فلا تنكسر
قال لي حُزْنُهُ النَّبٌَّوي: إلي أين أذهب؟
قلت إلى نجمة غير مرئية
أو إلى الكهف/
قال يحاصرني واقع لا أجيد قراءته
قلت دوّن إذن، ذكرياتك عن نجمة بعُدت
وغد يتلكأ، واسأل خيالك: هل
كان يعلم أن طريقك هذا طويل؟
فقال: ولكنني لا أجيد الكتابة يا صاحبي!
فسألت: كذبت علينا إذاً؟
فأجاب: علي الحلم أن يرشد الحالمين
كما الوحي /
ثم تنهد: خذ بيدي أيها المستحيل!
وغاب كما تتمنى الأساطير /
لم ينتصر ليموت، ولم ينكسر ليعيش
فخذ بيدينا معاً، أيها المستحيل !
..
..
..
(7)
لم ينتظر أحداً
لم ينتظرأحداً،
ولم يشعر بنقص في الوجود،
أمامه نهر رمادي كمعطفه،
ونور الشمس يملأ قلبه بالصحو
والأشجار عالية /
ولم يشعر بنقص في المكان،
المقعد الخشبي، قهوته، وكأس الماء
والغرباء، والأشياء في المقهى
كما هي،
والجرائد ذاتها: أخبار أمسِ، وعالم
يطفو على القتلى كعادته /
ولم يشعر بحاجته إلى أمل ليؤنسه
كأن يخضوضر المجهول في الصحراء
أو يشتاق ذئبٌ ما إلى غيتارة،
لم ينتظر شيئاً، ولا حتى مفاجأةً،
فلن يقوى على التكرار... أعرفُ
آخر المشوار منذ الخطوة الأولى -
يقول لنفسه - لم أبتعد عن عالمٍ،
لم أقترب من عالمٍ
لم ينتظر أحداً.. ولم يشعر بنقص
في مشاعره. فما زال الخريف مضيفه الملكي،
يغريه بموسيقى تعيد إليه عصر النهضة
الذهبي ... والشعر المُقفى بالكواكب والمدى
لم ينتظر أحداً أمام النهر /
في اللا إنتظار أُصاهر الدوريَّ
في اللا إنتظار أطون نهراً - قال -
لا أقسو على نفسي، ولا
أقسو على أحدٍ،
وأنجو من سؤال فادح:
ماذا تريد
ماذا تريد؟
..
..
(8)
برتقالية
برتقالية، تدخل الشمس في البحر /
والبرتقالة قنديل ماء على شجر بارد
برتقالية، تلد الشمس طفل الغروب الإلهيَّ /
والبرتقالة خائفة من فم جائع
برتقالية، تدخل الشمس في دورة الأبدية /
والبرتقالة تحظى بتمجيد قاتلها:
تلك الفاكهة مثل حبة الشمس
تقَشرُ
باليد والفم، مبحوحة الطعم
ثرثارة العطر سكرى بسائلها...
لونها لا شبيه له غيرها،
لونها صفة الشمس في نومها
لونها طعمها: حامض سكري،
غني بعافية الضوء والفيتامين c..
وليس على الشعر من حرج إن
تلعثم في سرده، وانتبه
إلى خلل رائع في الشبه!
..
...
...
(9)
هنالك عرس
هنالك عرسٌ علي بعد بيتين منا،
فلا تغلقوا الباب... لا تحجبوا نزوة
الفرح الشاذ عنا.
فإن ذبلت وردة
لا يحس الربيع بواجبه في البكاء
وإن صمت العندليب المريض أعار الكناري
حصته في الغناء.
وإن وقعت نجمة
لا تصاب السماء بسوء...
هنالك عرس ،
فلا تغلقوا الباب في وجه هذا الهواء
المضمخ بالزنجبيل وخوخ العروس التي
تنضج الآن [تبكي وتضحك كالماء.
لا جرح في الماء.
لا أثر لدم
سال في الليل]
قيل: قوي هو الحب كالموت!
قلت: ولكن شهوتنا للحياة
ولو خذلتنا البراهين، أقوى من
الحب والموت/
فلننه طقس جنازتنا كي نشارك
جيراننا في الغناء
الحياة بديهية .. وحقيقية كالهباء!
..
...
...
(10)
فراغ فسيح
فراغ فسيح. نحاس. عصافير حنطيةُ
اللون. صفصافةٌ. كسلٌ. أفقٌ مهملٌ
كالحكايا الكبيرة. أرض مجعدةُ الوجه.
صيف كثير التثاؤب كالكلب في ظل
زيتونةٍ يابسٍ. عَرَقٌ في الحجارة.
شمس عمودية. لا حياة ولا موت
حول المكان. جفافٌ كرائحة الضوء في
القمح. لا ماء في البئر والقلب.
لا حُبَّ في عمل الحُبّ... كالواجب الوطني
هو الحُبُّ. صحراء غير سياحية، غير
مرئية خلف هذا الجفاف. جفاف
كحرية السجناء بتنظيف أعلامهم من
براز الطيور، جفاف كحق النساء
بطاعة أزواجهن وهجر المضاجع. لا
عشب أخضر، لا عشب أصفر. لا
لون في مرض اللون. كل الجهات
رمادية
لا إنتظار إذاً
للبرابرة القادمين إلينا
غداة احتفالاتنا بالوطن!
..
..
..
(11)
ها هي الكلمات
ها هي الكلمات ترفرف في البال /
في البال أرض سماوية الاسم تحملها الكلمات
ولا يحلم الميتون كثيرا، وإن حلموا
لا يصدق أحلامهم أحد
هاهي الكلمات ترفرف في جسدي نحلةً
نحلةً ... لو كتبت على الأزرقِ الأزرقَ
اخضرّت الأغنيات وعادت إليّ الحياة.
وبالكلمات وجدت الطريق إلى الاسم
أقصر... لا يفرح الشعراء كثيراً، وإن
فرحوا لن يصدقهم أحد..
قلت: ما زلت حياً لأني أرى الكلمات
ترفرف في البال /
في البال أغنية تتأرجح بين الحضور
وبين الغياب، ولا تفتح الباب إلا
لكي توصد الباب .. أغنيةٌ عن
حياة الضباب، ولكنها لا تطيع سوى ما
نسيتُ من الكلمات!
..
..
..
(12)
لوصف زهر اللوز
ولوصف زهر اللوز، لا موسوعةُ الأزهار
تسعفني، ولا القاموس يسعفني...
سيخطفني الكلام إلى أحابيل البلاغةِ /
والبلاغةُ تجرح المعنى وتمدح جرحه،
كمذكر يملي على الأنثى مشاعرها /
فكيف يشع زهر اللوز في لغتي أنا
وأنا الصدى؟
وهو الشفيف كضحكة مائية نبتت
على الأغصان من خَفَر الندى...
وهو الخفيفُ كجملةٍ بيضاءَ موسيقيةٍ...
وهو الضعيف كلمح خاطرةٍ
تُطل على أصابعنا
ونكتبها شدى...
وهو الكثيف كبيت شعر لا يدونُ
بالحروف /
لوصف زهر اللوز تلزمني زيارات إلى
اللاوعي ترشدني إلى أسماء عاطفة
معلقة على الأشجار. ما اسمه؟
ما اسم هذا الشيء في شعرية اللاشيء ؟
يلزمني اختراق الجاذبية والكلام ،
لكي أحِسَّ بخفة الكلمات حين تصير
طيفا هامساً، فأكونها وتكونني
شفّافَةً بيضاءَ /
لا وطنٌ ولا منفى هي الكلمات،
بل ولعُ البياض بوصف زهر اللوز /
لا ثلجٌ ولا قُطنٌ / فما هو في
تعاليهِ على الأشياء والأسماء
لو نجح المؤلف في كتابة مقطع
في وصف زهر اللوز، لانحسر الضبابُ
عن التلال، وقال شعب كامل:
هذا هُوَ /
هذا كلامُ نشيدنا الوطنّي!
..
..
..
(13)
في البيت أجلس
في البيت أجلس،
لا حزيناً لا سعيداً
لا أنا، أو لا أحد
صحف مبعثرة. وورد المزهرية لا يذكرني
بمن قطفته لي. فاليوم عطلتنا عن الذكرى،
وعطلة كل شيء... إنه يوم الأحد
يوم نرتب فيه مطبخنا وغرفة نومنا،
كل على حدة. ونسمع نشرة الأخبار
هادئة، فلا حرب تشن على بلد
الإمبراطور السعيد يداعب اليوم الكلاب،
ويشرب الشمبانيا في ملتقى نهدين من
عاج... ويسبح في الزبد
الإمبراطور الوحيد اليوم في قيلولة،
مثلي ومثلك، لا يفكر بالقيامة .. فهي
مُلك يمينه، هي الحقيقة والأبد!
كسلٌ خفيفُ الوزن يطهو قهوتي
والهال يصهل في الهواء وفي الجسد
وكأنني وحدي. أنا هو أو أنا الثاني
رآني واطمأنَّ على نهاري وابتعد
يوم الأحد
هو أول الأيام في التوراة، لكن
الزمان يغير العاداتِ: إذ يرتاح
ربُّ الحرب في يوم الأحد
في البيت أجلس، لا سعيداً لا حزيناً
بين بين. ولا أبالي إن علمت بأنني
حقاً أنا ... أو لا أحد!
..
..
..
(14)
أحب الخريف وظل المعاني
أحبُّ الخريف وظل المعاني، ويعجبني
في الخريف غموض خفيف شفيف المناديل،
كالشعر غِبَّ ولادته إذ "يَزِغلِلُهُ"
وهج الليل أو عتمة الضوء. يحبو
ولا يجد الاسم للشيء /
يعجبني مطرٌ خَفِرٌ لا يبلل إلاَّ
البعيداتِ
[في مثل هذا الخريف تقاطع موكب عرسٍ
لنا مع إحدى الجنازات، فاحتفل الحيُّ
بالميت والميتُ بالحي]
يعجبني أن أرى ملكاً ينحني لاستعادة
لؤلؤة التاج من سمكٍ في البحيرة /
تعجبني في الخريف مشاعية اللون، لا
عرش للذهب المتواضع في ورق الشجر
المتواضع، مثل المساواة في ظمأ الحب /
يعجبني أنه هدنة بين جيشين ينتظران
المباراة ما بين شاعرتين تحبان فصل الخريف،
وتختلفان على وجه الاستعارة
ويعجبني في الخريف التواطؤ بين
الرؤى والعبارة!
..
..
..
..
(15)
وأما الربيع
وأما الربيع، فما يكتب الشعراء السكارى
إذا أفلحوا في التقاط الزمان السريع
بصنارة الكلمات... وعادوا إلى صحوهم سالمين.
قليلٌ من البرد في جَمرَةِ الجُلنار
يُخفف من لسعة النار في الاستعارة
[لو كنتُ أقربَ منكِ إلىَّ
لقبلتُ نفسي]
قليلٌ من اللون في زهرة اللوز يحمي
السماوات من حجة الوثني الأخيرة
[مهما اختلفنا سندرك أن السعادة
ممكنة مثل هزَّة أرضٍ]
قليلٌ من الرقص في مهرجان الزواج الإباحي
بين النباتات سوف ينشِّط دورتنا الدموية
[لا تعرف البذرةُ الموتَ
مهما ابتعدنا]
ولا تخجل الأبدية من أحدٍ
حين تمنحُ عانتها للجميع
هنا... في الربيع السريع
..
..
..
(16)
كنت أحبّ الشتاء
كنت في ما مضى أنحني للشتاء احتراماً ،
وأصغي إلى جسدي.
مطرٌ مطر كرسالة حب تسيلُ
إباحيَّةٌ من مجون السماء.
شتاءٌ.
نداءٌ.
صدى جائع لاحتضان النساء.
هواءٌ يُرَى من بعيد على فرس تحمل الغيم...
بيضاءَ بيضاءَ.
كنت أُحبُّ الشتاء،
وأمشي إلى موعدي فرحاً
مرحاً في الفضاء المبلل بالماء.
كانت فتاتي تنشفُ شعري القصير بشعر طويل
ترعرعَ في القمح والكستناء.
ولا تكتفي بالغناء:
أنا والشتاء نحبُّكََ،
فابقَ إذا معنا!
وتدفىءُ صدري على شاني ظبيةٍ ساخنين.
وكنت أُحبُّ الشتاء،
وأسمعه قطرة قطرة.
مطر، مطر كنداءٍ يُزفَُ إلى العاشق:
أُهطل على جسدي! ...
لم يكن في الشتاء بكاء يدلُّ على آخر العمر.
كان البدايةَ،
كان الرجاءَ.
فماذا
سأفعل،
والعمر يسقط كالشَّعر،
ماذا سأفعل هذا الشتاء ؟
..
..
..
..
(18)
فرحاً بشيء ما
فرحاً بشيء ما خفي، كنت أحتضن
الصباح بقوة الإنشاد،
أمشي واثقاً بخطاي،
أمشي واثقا برؤاي.
وحيٌ ما يناديني: تعال!
كأنه إيماءةٌ سحريةٌ ،
وكأنه حلمٌ ترجَّل كي يدربني على أسراره،
فأكون سيِّد نجمتي في الليل...
معتمداً على لغتي.
أنا حُلمي أنا.
أنا أمُّ أُمي في الرؤى،
وأبو أبي،
وابني أنا.
فرحا بشيء ما خفيٍّ،
كان يحملني على آلاته الوتريةِ الإنشاد.
يصقلني ويصقلني كماس أميرة شرقية
ما لم يُغنّ الآن في هذا الصباح
فلن يُغَنّى
أعطنا، يا حب، فيضك كله
لنخوض حرب العاطفييّن الشريفة،
فالمناخ ملائم،
والشمس تشحذ في الصباح سلاحنا،
يا حبّ! لا هدف لنا إلا الهزيمة في حروبك...
فانتصر أنت انتصر،
واسمع مديحك من ضحاياكَ: انتصر!
سَلِمت يداك!
وعد إلينا خاسرين... وسالماً!
فرحا بشيءٍ ما خفيٍّ،
كنتُ أمشي حالماً بقصيدة زرقاء من سطرين،
من سطرين...
عن فرح خفيف الوزن،
مرئيٍّ وسرّيّ معاً
من لا يحب الآن،
في هذا الصباح،
فلن يُحبّ!
..
..
..
..
(19)
لا أعرف الشخص الغريب
لا أعرف الشخص الغريب ولا مآثرهُ...
رأيت جنازةً فمشيت خلف النعش،
مثل الآخرين مطأطىء الرأس احتراماً.
لم أجد سببا لأسأل: من هو الشخص الغريب؟
وأين عاش، وكيف مات
[فإن أسباب الوفاة كثيرةٌ من بينها وجع الحياة].
سألتُ نفسي:
هل يرانا أم يرى عدماً ويأسف للنهاية؟
كنت أعلم أنه لن يفتح النعش المُغطى بالبنفسج
كي يُودعنا ويشكرنا ويهمس بالحقيقة
[ما الحقيقة؟].
ربما هو مثلنا في هذه الساعات يطوي ظلَّه.
لكنه هو وحده الشخصُ الذي لم يبكِ في هذا الصباح،
ولم ير الموت المحلق فوقنا كالصقر...
[فالأحياء هم أبناء عم الموت، والموتى
نيام هادئون وهادئون وهادئون]
ولم أجد سبباً لأسأل:
من هو الشخص الغريب وما اسمه؟
[لا برق يلمع في اسمه]
والسائرون وراءه عشرون شخصا ما عداي
[أنا سواي]
وتُهتُ في قلبي على باب الكنيسة:
ربما هو كاتبٌ أو عاملٌ أو لاجئٌ
أو سارقٌ، أو قاتلٌ... لا فرق،
فالموتى سواسية أمام الموت..
لا يتكلمون
وربما لا يحلمون...
وقد تكون جنازةُ الشخص الغريب جنازتي
لكنَّ أمراً ما إلهياً يؤجلها
لأسباب عديدة
من بينها: خطأ كبير في القصيدة!
..
..
..
(20)
الجميلات هن الجميلات
الجميلات هنَّ الجميلاتُ
[نقش الكمنجات في الخاصرة]
الجميلات هنَّ الضعيفاتُ
[عرشٌ طفيفٌ بلا ذاكرة]
الجميلات هنَّ القوياتُ
[يأسٌ يضيء ولا يحترق]
الجميلات هنَّ الأميرات ُ
[ربَّاتُ وحيٍِ قلق]
الجميلات هنَّ القريباتُ
[جاراتُ قوس قزح]
الجميلات هنَّ البعيداتُ
[مثل أغاني الفرح]
الجميلات هنَّ الفقيراتُ
[مثل الوصيفات في حضرة الملكة]
الجميلات هنَّ الطويلاتُ
[خالات نخل السماء]
الجميلات هنَّ القصيراتُ
[يُشرَبْنَ في كأس ماء]
الجميلات هنَّ الكبيراتُ
[مانجو مقشرةٌ ونبيذٌ معتق]
الجميلات هنَّ الصغيراتُ
[وَعْدُ غدٍ وبراعم زنبق]
الجميلات، كلّْ الجميلاتُ، أنتِ
إذا ما اجتمعن ليخترن لي أنبلَ القاتلات !
..
..
..
(21)
كمقهى صغير هو الحبّ
كمقهى صغير على شارع الغرباء -
هو الحُبُّ... يفتح أبوابه للجميع.
كمقهي يزيد وينقُص وفق المناخ:
إذا هطل المطرُ ازداد رُوَّاده،
وإذا اعتدل الجوُّ قلُّوا ومَلُّوا..
أنا هاهنا - يا غريبةُ - في الركن أجلس
[ما لون عينيكِ؟ ما اسمك؟
كيف أناديك حين تمرين بي،
وأنا جالس في انتظاركِ؟]
مقهى صغير هو الحبُّ.
أطلب كأسي
نبيذ
وأشرب نخبي ونخبك.
أحمل قُبعتين وشمسية.
إنها تمطر الآن.
تمطر أكثر من أي يوم،
ولا تدخلين.
أقول لنفسي أخيراً:
لعلَّ التي كنت أنتظرُ انتظرتني..
أو انتظرت رجلاً آخرَ -
انتظرتنا ولم تتعرف عليه / عليَّ،
وكانت تقول:
أنا هاهنا في انتظارك.
[ما لون عينيكَ؟ أي نبيذٍ تحبُّ؟
وما اسمُكَ؟
كيف أناديكَ حين تمرُّ أمامي]
كمقهى صغيرٍ هو الحُبّ...
..
..
..
..
..
(22)
يد تنشر الصحو
يد تنشر الصحو أبيض، تسهر،
تنهى وتأمر، تنأى وتدنو، وتقسو وتحنو.
يد تكسر اللازورد بإيماءةٍ،
وترقص خيلا على النهوند.
يد تتعالى.
تثرثر حين يجف الكلام.
يد تسكب البرق في قدح الشاي،
تحلب ثدي السحابة،
تستدرج الناي ((أنت صدايَ)).
يدٌ تتذكر ما سوف يحدث عما قليل.
يد تتلألأ في أنجمٍ خمسةٍ...
تحرم الليل من حقه في النعاس.
يد تعصرُ المفردات فترشح ماءً.
يد تتحدث عن هجرة الطير منها إليها.
يد ترفع المعنويات في الكلمات،
يد تأمر الجيش بالنوم في الثكنات.
يدٌ تتحرشُ بالموج في جسدي.
يدها همسة تلمسُ الأوجَ:
خذني... هنا الآن ... خذني !
..
..
..
..
(23)
ليتني كنت أصغر
قال لها:
ليتني كنت أصغر
قال لها: ليتني كنت أصغر...
قالت له: سوف أكبر ليلاً كرائحة
الياسمينة في الصيف
ثم أضافت: وأنت ستصغر حين تنام،
فكل النيام صغارٌ،
وأما أنا فسأسهر حتى الصباح
ليسودَّ ما تحت عينيَّ.
خيطان من تعب متقن يكفيان
لأبدو أكبر.
أعصر ليمونة فوق بطني
لأخرج طعم الحليب ورائحة القطن.
أفرك نهدي بالملح والزنجبيل فينفر نهدايَ أكثر /
قال لها:
ليس في القلب متسع للحديقة يا بنت...
لا وقت في جسدي لغدٍ...
فاكبري بهدوءٍ وبطءٍ
فقالت له:
لا نصيحةَ في الحب.
خذني لأكبرَ!
خذني لتصغرَ
قال لها:
عندما تكبرين غداً ستقولين:
يا ليتني كُنتُ أصغر
قالت له:
شهوتي مثل فاكهةٍ لا تؤجَّلُ...
لا وقت في جسدي لانتظار
غدي!
..
..
..
..
يتبع
أقدم لكم ديوان محمود درويش الأخير
"كزهر اللوز أو أبعد"
********
أتمنى أن تستمتعوا بصحبة هذا الديوان الرائع
كما استمتعت
(1)
فكر بغيرك
وأنت تعد فطورك فكر بغيرك
[لا تنس قوت الحمام]
وأنت تخوض حروبك فكر بغيرك
[لا تنس من يطلبون السلام]
وأنت تسدد فاتورة الماء فكر بغيرك
[لا تنس من يرضعون الغمام]
وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكر بغيرك
[لا تنس شعب الخيام]
وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكر بغيرك
[ثمة من لم يجد حيزاً للمنام]
وأنت تحرر نفسك بالاستعارات، فكر بغيرك
[من فقدوا حقهم في الكلام]
وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكر بنفسك
[قل: ليتني شمعة في الظلام]
(2)
الآن ... في المنفى
الآن، في المنفي ... نعم في البيت،
في الستين من عمر سريع
يوقدون الشمع لك
فافرح بأقصي ما استطعت من الهدوء،
لأن موتاً طائشاً ضل الطريق إليك
من فرط الزحام ... وأجَّلك
قمرٌ فضوليٌّ على الأطلال،
يضحك كالغبيّ
فلا تصدق أنه يدنو لكي يستقبلك
هو في وظيفته القديمة، مثل آذارَ
الجديد ... أعاد للأشجار أسماء الحنين
وأهملك
فلتحتفل مع أصدقائك بانكسار الكأس.
في الستين لن تجد الغد الباقي
لتحمله علي كتف النشيد... ويحملك
قل للحياة، كما يليق بشاعر متمرس:
سيري ببطء كالإناث الواثقات بسحرهن
وكيدهن. لكل واحدة نداءٌ ما خفيٌ :
هَيتَ لك / ما أجملك!
سيري ببطء، يا حياة، لكي أراك
بكامل النقصان حولي كم نسيتك في
خضمِّك باحثاً عني وعنك. وكلما أدركت
سراً منك قلت بقسوة: ما أجهلَك!
قل للغياب: نقصتني
وأنا حضرتَ ... لأكملَك!
..
...
(3)
حين تطيل التأمل
حين تطيل التأمل في وردةٍ
جرَحَت حائطاً، وتقول لنفسكَ:
لي أملٌ في الشفاء من الرمل /
يخضر قلبُكَ...
حين ترافق أنثى إلى السيرك
ذات نهار جميل كأيقونة ...
وتحلًّ كضيف على رقصة الخيل /
يحمر قلبُكَ...
حين تعُدُّ النجوم وتخطئ بعد
الثلاثة عشر، وتنعس كالطفل
في زرقة الليل /
يبيض قلبُكَ...
حين تسير ولا تجد الحلم
يمشي أمامك كالظل /
يصفر قلبُكَ...
(4)
إن مشيت على شارع
إن مشيت علي شارع لا يؤدي إلي هاوية
قل لمن يجمعون القمامة: شكراً!
إن رجعت إلي البيت، حياً، كما ترجع القافية
بلا خللٍ، قل لنفسك: شكراً!
إن توقعت شيئاً وخانك حدسك، فاذهب غداً
لتري أين كنت وقل للفراشة: شكراً!
إن صرخت بكل قواك، ورد عليك الصدى
(من هناك؟) فقل للهوية: شكراً!
إن نظرت إلي وردة دون أن توجعك
وفرحت بها، قل لقلبك: شكراً!
إن نهضت صباحاً، ولم تجد الآخرين معك
يفركون جفونك، قل للبصيرة: شكراً!
إن تذكرت حرفاً من اسمك واسم بلادك
كن ولداً طيباً!
ليقول لك الربُّ: شكراً!
..
(5)
مقهى، وأنت مع الجريدة
مقهى، وأنت مع الجريدة جالس
لا، لست وحدك. نصف كأسك فارغ
والشمس تملأ نصفها الثاني ...
ومن خلف الزجاج تري المشاة المسرعين
ولا تُرى
[إحدي صفات الغيب تلك:
ترى ولكن لا تُرى]
كم أنت حر أيها المنسي في المقهى!
فلا أحدٌ يرى أثر الكمنجة فيك،
لا أحدٌ يحملقُ في حضورك أو غيابك،
أو يدقق في ضبابك إن نظرت
إلى فتاة وانكسرت أمامها..
كم أنت حر في إدارة شأنك الشخصي
في هذا الزحام بلا رقيب منك أو
من قارئ!
فاصنع بنفسك ما تشاء، اخلع
قميصك أو حذاءك إن أردت، فأنت
منسي وحر في خيالك، ليس لاسمك
أو لوجهك هاهنا عمل ضروريٌ. تكون
كما تكون ... فلا صديق ولا عدو
هنا يراقب ذكرياتك /
فالتمس عذرا لمن تركتك في المقهى
لأنك لم تلاحظ قَصَّة الشَّعر الجديدة
والفراشات التي رقصت علي غمازتيها /
والتمس عذراً لمن طلب اغتيالك،
ذات يوم، لا لشيء... بل لأنك لم
تمت يوم ارتطمت بنجمة.. وكتبت
أولى الأغنيات بحبرها...
مقهى، وأنت مع الجريدة جالسٌ
في الركن منسيّا، فلا أحد يهين
مزاجك الصافي،
ولا أحدٌ يفكر باغتيالك
كم أنت منسيٌّ وحُرٌّ في خيالك!
..
..
(6)
هو لا غيره
هو، لا غيره، من ترجل عن نجمة
لم تصبه بأيّ أذى.
قال: أسطورتي لن تعيش طويلاً
ولا صورتي في مخيلة الناس /
فلتمتحني الحقيقة
قلت له: إن ظهرت انكسرت، فلا تنكسر
قال لي حُزْنُهُ النَّبٌَّوي: إلي أين أذهب؟
قلت إلى نجمة غير مرئية
أو إلى الكهف/
قال يحاصرني واقع لا أجيد قراءته
قلت دوّن إذن، ذكرياتك عن نجمة بعُدت
وغد يتلكأ، واسأل خيالك: هل
كان يعلم أن طريقك هذا طويل؟
فقال: ولكنني لا أجيد الكتابة يا صاحبي!
فسألت: كذبت علينا إذاً؟
فأجاب: علي الحلم أن يرشد الحالمين
كما الوحي /
ثم تنهد: خذ بيدي أيها المستحيل!
وغاب كما تتمنى الأساطير /
لم ينتصر ليموت، ولم ينكسر ليعيش
فخذ بيدينا معاً، أيها المستحيل !
..
..
..
(7)
لم ينتظر أحداً
لم ينتظرأحداً،
ولم يشعر بنقص في الوجود،
أمامه نهر رمادي كمعطفه،
ونور الشمس يملأ قلبه بالصحو
والأشجار عالية /
ولم يشعر بنقص في المكان،
المقعد الخشبي، قهوته، وكأس الماء
والغرباء، والأشياء في المقهى
كما هي،
والجرائد ذاتها: أخبار أمسِ، وعالم
يطفو على القتلى كعادته /
ولم يشعر بحاجته إلى أمل ليؤنسه
كأن يخضوضر المجهول في الصحراء
أو يشتاق ذئبٌ ما إلى غيتارة،
لم ينتظر شيئاً، ولا حتى مفاجأةً،
فلن يقوى على التكرار... أعرفُ
آخر المشوار منذ الخطوة الأولى -
يقول لنفسه - لم أبتعد عن عالمٍ،
لم أقترب من عالمٍ
لم ينتظر أحداً.. ولم يشعر بنقص
في مشاعره. فما زال الخريف مضيفه الملكي،
يغريه بموسيقى تعيد إليه عصر النهضة
الذهبي ... والشعر المُقفى بالكواكب والمدى
لم ينتظر أحداً أمام النهر /
في اللا إنتظار أُصاهر الدوريَّ
في اللا إنتظار أطون نهراً - قال -
لا أقسو على نفسي، ولا
أقسو على أحدٍ،
وأنجو من سؤال فادح:
ماذا تريد
ماذا تريد؟
..
..
(8)
برتقالية
برتقالية، تدخل الشمس في البحر /
والبرتقالة قنديل ماء على شجر بارد
برتقالية، تلد الشمس طفل الغروب الإلهيَّ /
والبرتقالة خائفة من فم جائع
برتقالية، تدخل الشمس في دورة الأبدية /
والبرتقالة تحظى بتمجيد قاتلها:
تلك الفاكهة مثل حبة الشمس
تقَشرُ
باليد والفم، مبحوحة الطعم
ثرثارة العطر سكرى بسائلها...
لونها لا شبيه له غيرها،
لونها صفة الشمس في نومها
لونها طعمها: حامض سكري،
غني بعافية الضوء والفيتامين c..
وليس على الشعر من حرج إن
تلعثم في سرده، وانتبه
إلى خلل رائع في الشبه!
..
...
...
(9)
هنالك عرس
هنالك عرسٌ علي بعد بيتين منا،
فلا تغلقوا الباب... لا تحجبوا نزوة
الفرح الشاذ عنا.
فإن ذبلت وردة
لا يحس الربيع بواجبه في البكاء
وإن صمت العندليب المريض أعار الكناري
حصته في الغناء.
وإن وقعت نجمة
لا تصاب السماء بسوء...
هنالك عرس ،
فلا تغلقوا الباب في وجه هذا الهواء
المضمخ بالزنجبيل وخوخ العروس التي
تنضج الآن [تبكي وتضحك كالماء.
لا جرح في الماء.
لا أثر لدم
سال في الليل]
قيل: قوي هو الحب كالموت!
قلت: ولكن شهوتنا للحياة
ولو خذلتنا البراهين، أقوى من
الحب والموت/
فلننه طقس جنازتنا كي نشارك
جيراننا في الغناء
الحياة بديهية .. وحقيقية كالهباء!
..
...
...
(10)
فراغ فسيح
فراغ فسيح. نحاس. عصافير حنطيةُ
اللون. صفصافةٌ. كسلٌ. أفقٌ مهملٌ
كالحكايا الكبيرة. أرض مجعدةُ الوجه.
صيف كثير التثاؤب كالكلب في ظل
زيتونةٍ يابسٍ. عَرَقٌ في الحجارة.
شمس عمودية. لا حياة ولا موت
حول المكان. جفافٌ كرائحة الضوء في
القمح. لا ماء في البئر والقلب.
لا حُبَّ في عمل الحُبّ... كالواجب الوطني
هو الحُبُّ. صحراء غير سياحية، غير
مرئية خلف هذا الجفاف. جفاف
كحرية السجناء بتنظيف أعلامهم من
براز الطيور، جفاف كحق النساء
بطاعة أزواجهن وهجر المضاجع. لا
عشب أخضر، لا عشب أصفر. لا
لون في مرض اللون. كل الجهات
رمادية
لا إنتظار إذاً
للبرابرة القادمين إلينا
غداة احتفالاتنا بالوطن!
..
..
..
(11)
ها هي الكلمات
ها هي الكلمات ترفرف في البال /
في البال أرض سماوية الاسم تحملها الكلمات
ولا يحلم الميتون كثيرا، وإن حلموا
لا يصدق أحلامهم أحد
هاهي الكلمات ترفرف في جسدي نحلةً
نحلةً ... لو كتبت على الأزرقِ الأزرقَ
اخضرّت الأغنيات وعادت إليّ الحياة.
وبالكلمات وجدت الطريق إلى الاسم
أقصر... لا يفرح الشعراء كثيراً، وإن
فرحوا لن يصدقهم أحد..
قلت: ما زلت حياً لأني أرى الكلمات
ترفرف في البال /
في البال أغنية تتأرجح بين الحضور
وبين الغياب، ولا تفتح الباب إلا
لكي توصد الباب .. أغنيةٌ عن
حياة الضباب، ولكنها لا تطيع سوى ما
نسيتُ من الكلمات!
..
..
..
(12)
لوصف زهر اللوز
ولوصف زهر اللوز، لا موسوعةُ الأزهار
تسعفني، ولا القاموس يسعفني...
سيخطفني الكلام إلى أحابيل البلاغةِ /
والبلاغةُ تجرح المعنى وتمدح جرحه،
كمذكر يملي على الأنثى مشاعرها /
فكيف يشع زهر اللوز في لغتي أنا
وأنا الصدى؟
وهو الشفيف كضحكة مائية نبتت
على الأغصان من خَفَر الندى...
وهو الخفيفُ كجملةٍ بيضاءَ موسيقيةٍ...
وهو الضعيف كلمح خاطرةٍ
تُطل على أصابعنا
ونكتبها شدى...
وهو الكثيف كبيت شعر لا يدونُ
بالحروف /
لوصف زهر اللوز تلزمني زيارات إلى
اللاوعي ترشدني إلى أسماء عاطفة
معلقة على الأشجار. ما اسمه؟
ما اسم هذا الشيء في شعرية اللاشيء ؟
يلزمني اختراق الجاذبية والكلام ،
لكي أحِسَّ بخفة الكلمات حين تصير
طيفا هامساً، فأكونها وتكونني
شفّافَةً بيضاءَ /
لا وطنٌ ولا منفى هي الكلمات،
بل ولعُ البياض بوصف زهر اللوز /
لا ثلجٌ ولا قُطنٌ / فما هو في
تعاليهِ على الأشياء والأسماء
لو نجح المؤلف في كتابة مقطع
في وصف زهر اللوز، لانحسر الضبابُ
عن التلال، وقال شعب كامل:
هذا هُوَ /
هذا كلامُ نشيدنا الوطنّي!
..
..
..
(13)
في البيت أجلس
في البيت أجلس،
لا حزيناً لا سعيداً
لا أنا، أو لا أحد
صحف مبعثرة. وورد المزهرية لا يذكرني
بمن قطفته لي. فاليوم عطلتنا عن الذكرى،
وعطلة كل شيء... إنه يوم الأحد
يوم نرتب فيه مطبخنا وغرفة نومنا،
كل على حدة. ونسمع نشرة الأخبار
هادئة، فلا حرب تشن على بلد
الإمبراطور السعيد يداعب اليوم الكلاب،
ويشرب الشمبانيا في ملتقى نهدين من
عاج... ويسبح في الزبد
الإمبراطور الوحيد اليوم في قيلولة،
مثلي ومثلك، لا يفكر بالقيامة .. فهي
مُلك يمينه، هي الحقيقة والأبد!
كسلٌ خفيفُ الوزن يطهو قهوتي
والهال يصهل في الهواء وفي الجسد
وكأنني وحدي. أنا هو أو أنا الثاني
رآني واطمأنَّ على نهاري وابتعد
يوم الأحد
هو أول الأيام في التوراة، لكن
الزمان يغير العاداتِ: إذ يرتاح
ربُّ الحرب في يوم الأحد
في البيت أجلس، لا سعيداً لا حزيناً
بين بين. ولا أبالي إن علمت بأنني
حقاً أنا ... أو لا أحد!
..
..
..
(14)
أحب الخريف وظل المعاني
أحبُّ الخريف وظل المعاني، ويعجبني
في الخريف غموض خفيف شفيف المناديل،
كالشعر غِبَّ ولادته إذ "يَزِغلِلُهُ"
وهج الليل أو عتمة الضوء. يحبو
ولا يجد الاسم للشيء /
يعجبني مطرٌ خَفِرٌ لا يبلل إلاَّ
البعيداتِ
[في مثل هذا الخريف تقاطع موكب عرسٍ
لنا مع إحدى الجنازات، فاحتفل الحيُّ
بالميت والميتُ بالحي]
يعجبني أن أرى ملكاً ينحني لاستعادة
لؤلؤة التاج من سمكٍ في البحيرة /
تعجبني في الخريف مشاعية اللون، لا
عرش للذهب المتواضع في ورق الشجر
المتواضع، مثل المساواة في ظمأ الحب /
يعجبني أنه هدنة بين جيشين ينتظران
المباراة ما بين شاعرتين تحبان فصل الخريف،
وتختلفان على وجه الاستعارة
ويعجبني في الخريف التواطؤ بين
الرؤى والعبارة!
..
..
..
..
(15)
وأما الربيع
وأما الربيع، فما يكتب الشعراء السكارى
إذا أفلحوا في التقاط الزمان السريع
بصنارة الكلمات... وعادوا إلى صحوهم سالمين.
قليلٌ من البرد في جَمرَةِ الجُلنار
يُخفف من لسعة النار في الاستعارة
[لو كنتُ أقربَ منكِ إلىَّ
لقبلتُ نفسي]
قليلٌ من اللون في زهرة اللوز يحمي
السماوات من حجة الوثني الأخيرة
[مهما اختلفنا سندرك أن السعادة
ممكنة مثل هزَّة أرضٍ]
قليلٌ من الرقص في مهرجان الزواج الإباحي
بين النباتات سوف ينشِّط دورتنا الدموية
[لا تعرف البذرةُ الموتَ
مهما ابتعدنا]
ولا تخجل الأبدية من أحدٍ
حين تمنحُ عانتها للجميع
هنا... في الربيع السريع
..
..
..
(16)
كنت أحبّ الشتاء
كنت في ما مضى أنحني للشتاء احتراماً ،
وأصغي إلى جسدي.
مطرٌ مطر كرسالة حب تسيلُ
إباحيَّةٌ من مجون السماء.
شتاءٌ.
نداءٌ.
صدى جائع لاحتضان النساء.
هواءٌ يُرَى من بعيد على فرس تحمل الغيم...
بيضاءَ بيضاءَ.
كنت أُحبُّ الشتاء،
وأمشي إلى موعدي فرحاً
مرحاً في الفضاء المبلل بالماء.
كانت فتاتي تنشفُ شعري القصير بشعر طويل
ترعرعَ في القمح والكستناء.
ولا تكتفي بالغناء:
أنا والشتاء نحبُّكََ،
فابقَ إذا معنا!
وتدفىءُ صدري على شاني ظبيةٍ ساخنين.
وكنت أُحبُّ الشتاء،
وأسمعه قطرة قطرة.
مطر، مطر كنداءٍ يُزفَُ إلى العاشق:
أُهطل على جسدي! ...
لم يكن في الشتاء بكاء يدلُّ على آخر العمر.
كان البدايةَ،
كان الرجاءَ.
فماذا
سأفعل،
والعمر يسقط كالشَّعر،
ماذا سأفعل هذا الشتاء ؟
..
..
..
..
(18)
فرحاً بشيء ما
فرحاً بشيء ما خفي، كنت أحتضن
الصباح بقوة الإنشاد،
أمشي واثقاً بخطاي،
أمشي واثقا برؤاي.
وحيٌ ما يناديني: تعال!
كأنه إيماءةٌ سحريةٌ ،
وكأنه حلمٌ ترجَّل كي يدربني على أسراره،
فأكون سيِّد نجمتي في الليل...
معتمداً على لغتي.
أنا حُلمي أنا.
أنا أمُّ أُمي في الرؤى،
وأبو أبي،
وابني أنا.
فرحا بشيء ما خفيٍّ،
كان يحملني على آلاته الوتريةِ الإنشاد.
يصقلني ويصقلني كماس أميرة شرقية
ما لم يُغنّ الآن في هذا الصباح
فلن يُغَنّى
أعطنا، يا حب، فيضك كله
لنخوض حرب العاطفييّن الشريفة،
فالمناخ ملائم،
والشمس تشحذ في الصباح سلاحنا،
يا حبّ! لا هدف لنا إلا الهزيمة في حروبك...
فانتصر أنت انتصر،
واسمع مديحك من ضحاياكَ: انتصر!
سَلِمت يداك!
وعد إلينا خاسرين... وسالماً!
فرحا بشيءٍ ما خفيٍّ،
كنتُ أمشي حالماً بقصيدة زرقاء من سطرين،
من سطرين...
عن فرح خفيف الوزن،
مرئيٍّ وسرّيّ معاً
من لا يحب الآن،
في هذا الصباح،
فلن يُحبّ!
..
..
..
..
(19)
لا أعرف الشخص الغريب
لا أعرف الشخص الغريب ولا مآثرهُ...
رأيت جنازةً فمشيت خلف النعش،
مثل الآخرين مطأطىء الرأس احتراماً.
لم أجد سببا لأسأل: من هو الشخص الغريب؟
وأين عاش، وكيف مات
[فإن أسباب الوفاة كثيرةٌ من بينها وجع الحياة].
سألتُ نفسي:
هل يرانا أم يرى عدماً ويأسف للنهاية؟
كنت أعلم أنه لن يفتح النعش المُغطى بالبنفسج
كي يُودعنا ويشكرنا ويهمس بالحقيقة
[ما الحقيقة؟].
ربما هو مثلنا في هذه الساعات يطوي ظلَّه.
لكنه هو وحده الشخصُ الذي لم يبكِ في هذا الصباح،
ولم ير الموت المحلق فوقنا كالصقر...
[فالأحياء هم أبناء عم الموت، والموتى
نيام هادئون وهادئون وهادئون]
ولم أجد سبباً لأسأل:
من هو الشخص الغريب وما اسمه؟
[لا برق يلمع في اسمه]
والسائرون وراءه عشرون شخصا ما عداي
[أنا سواي]
وتُهتُ في قلبي على باب الكنيسة:
ربما هو كاتبٌ أو عاملٌ أو لاجئٌ
أو سارقٌ، أو قاتلٌ... لا فرق،
فالموتى سواسية أمام الموت..
لا يتكلمون
وربما لا يحلمون...
وقد تكون جنازةُ الشخص الغريب جنازتي
لكنَّ أمراً ما إلهياً يؤجلها
لأسباب عديدة
من بينها: خطأ كبير في القصيدة!
..
..
..
(20)
الجميلات هن الجميلات
الجميلات هنَّ الجميلاتُ
[نقش الكمنجات في الخاصرة]
الجميلات هنَّ الضعيفاتُ
[عرشٌ طفيفٌ بلا ذاكرة]
الجميلات هنَّ القوياتُ
[يأسٌ يضيء ولا يحترق]
الجميلات هنَّ الأميرات ُ
[ربَّاتُ وحيٍِ قلق]
الجميلات هنَّ القريباتُ
[جاراتُ قوس قزح]
الجميلات هنَّ البعيداتُ
[مثل أغاني الفرح]
الجميلات هنَّ الفقيراتُ
[مثل الوصيفات في حضرة الملكة]
الجميلات هنَّ الطويلاتُ
[خالات نخل السماء]
الجميلات هنَّ القصيراتُ
[يُشرَبْنَ في كأس ماء]
الجميلات هنَّ الكبيراتُ
[مانجو مقشرةٌ ونبيذٌ معتق]
الجميلات هنَّ الصغيراتُ
[وَعْدُ غدٍ وبراعم زنبق]
الجميلات، كلّْ الجميلاتُ، أنتِ
إذا ما اجتمعن ليخترن لي أنبلَ القاتلات !
..
..
..
(21)
كمقهى صغير هو الحبّ
كمقهى صغير على شارع الغرباء -
هو الحُبُّ... يفتح أبوابه للجميع.
كمقهي يزيد وينقُص وفق المناخ:
إذا هطل المطرُ ازداد رُوَّاده،
وإذا اعتدل الجوُّ قلُّوا ومَلُّوا..
أنا هاهنا - يا غريبةُ - في الركن أجلس
[ما لون عينيكِ؟ ما اسمك؟
كيف أناديك حين تمرين بي،
وأنا جالس في انتظاركِ؟]
مقهى صغير هو الحبُّ.
أطلب كأسي
نبيذ
وأشرب نخبي ونخبك.
أحمل قُبعتين وشمسية.
إنها تمطر الآن.
تمطر أكثر من أي يوم،
ولا تدخلين.
أقول لنفسي أخيراً:
لعلَّ التي كنت أنتظرُ انتظرتني..
أو انتظرت رجلاً آخرَ -
انتظرتنا ولم تتعرف عليه / عليَّ،
وكانت تقول:
أنا هاهنا في انتظارك.
[ما لون عينيكَ؟ أي نبيذٍ تحبُّ؟
وما اسمُكَ؟
كيف أناديكَ حين تمرُّ أمامي]
كمقهى صغيرٍ هو الحُبّ...
..
..
..
..
..
(22)
يد تنشر الصحو
يد تنشر الصحو أبيض، تسهر،
تنهى وتأمر، تنأى وتدنو، وتقسو وتحنو.
يد تكسر اللازورد بإيماءةٍ،
وترقص خيلا على النهوند.
يد تتعالى.
تثرثر حين يجف الكلام.
يد تسكب البرق في قدح الشاي،
تحلب ثدي السحابة،
تستدرج الناي ((أنت صدايَ)).
يدٌ تتذكر ما سوف يحدث عما قليل.
يد تتلألأ في أنجمٍ خمسةٍ...
تحرم الليل من حقه في النعاس.
يد تعصرُ المفردات فترشح ماءً.
يد تتحدث عن هجرة الطير منها إليها.
يد ترفع المعنويات في الكلمات،
يد تأمر الجيش بالنوم في الثكنات.
يدٌ تتحرشُ بالموج في جسدي.
يدها همسة تلمسُ الأوجَ:
خذني... هنا الآن ... خذني !
..
..
..
..
(23)
ليتني كنت أصغر
قال لها:
ليتني كنت أصغر
قال لها: ليتني كنت أصغر...
قالت له: سوف أكبر ليلاً كرائحة
الياسمينة في الصيف
ثم أضافت: وأنت ستصغر حين تنام،
فكل النيام صغارٌ،
وأما أنا فسأسهر حتى الصباح
ليسودَّ ما تحت عينيَّ.
خيطان من تعب متقن يكفيان
لأبدو أكبر.
أعصر ليمونة فوق بطني
لأخرج طعم الحليب ورائحة القطن.
أفرك نهدي بالملح والزنجبيل فينفر نهدايَ أكثر /
قال لها:
ليس في القلب متسع للحديقة يا بنت...
لا وقت في جسدي لغدٍ...
فاكبري بهدوءٍ وبطءٍ
فقالت له:
لا نصيحةَ في الحب.
خذني لأكبرَ!
خذني لتصغرَ
قال لها:
عندما تكبرين غداً ستقولين:
يا ليتني كُنتُ أصغر
قالت له:
شهوتي مثل فاكهةٍ لا تؤجَّلُ...
لا وقت في جسدي لانتظار
غدي!
..
..
..
..
يتبع